آمال كبيرة في التنقل الجوي
في مدن اليوم المزدحمة أكثر من أي وقت مضى، بات مألوفاً جداً أن نقضي أوقاتاً طويلة بلا حراك عالقين في هذا الازدحام المتزايد يوماً بعد يوم. فإذا كنت قد أضعت دقائق ثمينة عالقاً في ازدحام مروري مؤخراً، فأنت لست وحدك على الإطلاق. وهذه لا شك مشكلة عالمية، فالسائقون من بوسطن إلى بوغوتا، ومن فيلادلفيا إلى باريس، جميعهم أضاعوا ما يعادل أياماً عالقين في الطرقات المزدحمة في عام 2022. أما سكان لندن، وهي بالطبع إحدى أكثر المدن ازدحاماً في العالم، فقد خسروا 156 ساعة بسبب التأخير الناجم عن حركة المرور العام الماضي، بزيادة تبلغ 5% عن أوقات ما قبل الجائحة. [1]
لا عجب إذن أن تتجه أنظارنا إلى السماء بعد أن أصبح التنقل الحضري غير مقصور على المركبات التي تعيق الحركة على الطرقات، ولا سيما بعد ظهور حل جديد في الأفق من شأنه أن يُحدث قريباً ثورة في مشهد التنقل في مدننا، ألا وهو التنقل الجوي.
فبفضل التقدم التكنولوجي، بات بإمكاننا اليوم أن نتخيل، ولأول مرة في التاريخ، مستقبلاً يلوح في الأفق القريب لنقل البضائع والأشخاص في مسارات جوية فوق مدننا.
يمكن لطائرات التاكسي الجوي وطائرات الشحن بدون طيار أن تفعل أكثر من مجرد توفير الوقت والمال. فمع ازدياد وضوح الخسائر الفعلية للتلوث في المدن أكثر من أي وقت مضى، يبرز التنقل الجوي كحل واعد للمساعدة في إزالة الانبعاثات الكربونية، التي تسببت، بحسب قمة المناخ «كوب 28» المنعقدة في دبي العام الماضي، في جعل عام 2023 العام الأكثر حرارة على الإطلاق، ونحن جميعاً شهود على ما يشهده العالم حالياً من كوارث مناخية [2]. وما يزيد الأمر سوءاً أن الوقود الأحفوري يتسبب في وفاة أكثر من 5 ملايين إنسان سنوياً. [3]
وإزاء هذه الحقائق الصارخة، تبرز وسائل النقل الجوي المعتمدة على الطاقة الكهربائية باعتبارها حلاً واعداً لإبقاء الاحتباس الحراري عند 1.5 درجة مئوية وبالتالي حماية صحة الإنسان في جميع أنحاء العالم. [4]
فهل ستحملنا المركبات الجوية ذات يوم عبر السماء، أم أننا بصدد أفكار خيالية تماماً؟ والحقيقة، كما هو الحال في كثير من الأحيان، تكمن في مكان وسط بين هاتين الفرضيتيّن.
سوق تحلق عالياً بقيمة تريليونات
في ظل التوقعات بزيادة عدد سكان المدن من 4.4 مليار نسمة حالياً إلى 6.7 مليار نسمة بحلول عام 2050 [5]، والمعدلات المتزايدة لتملك السيارات الخاصة عالمياً، تبدو الحاجة ماسة إلى حلول بديلة للتنقل.
ومن حسن الحظ أن لدينا الآن جيل جديد من الطائرات الكهربائية العمودية (eVOTL) والطائرات بدون طيار (UAV) على استعداد لتغيير كل ما نعتقد أننا نعرفه عن النقل قصير المدى، فلم يُعد نقل الأشخاص أو البضائع من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) يستلزم بالضرورة تشغيل محرك يعمل بالبنزين أو الديزل. وعلينا أن نتذكر أنه حتى أكثر السيارات أو الشاحنات التي تعمل بالطاقة المستدامة لن تكون ذات فائدة تذكر إذا كانت تقضي نصف الوقت عالقة في زحمة المرور.
الهدوء والسرعة والنظافة… كلمات رنانة جديدة تتصدر المشهد.
لقد أصبحت تكنولوجيا الطيران الكهربائي متوفرة بالفعل، وكل ما يتطلبه الأمر هو الاستثمار والدعم التشريعي لنشرها على نطاق واسع. كما أن الحوافز المتوفرة كفيلة بتشجيع أصحاب المصلحة على خوض غمار هذه التجربة، خاصةً وأن سوق الطيران الكهربائي يمكن أن تصل إلى 9 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2050 [6]– متجاوزة بذلك سوق النقل البري.
لطالما استخدم الأثرياء طائرات الهليكوبتر بالفعل للتنقل من اجتماع إلى آخر. والطائرات بدون طيار والطائرات الكهربائية ليست بعيدة عن ذلك، فهي تتبنى ذات المفهوم وتنفذه، أو بالأحرى تطير به، واعدة بجعل النقل الجوي والخدمات اللوجستية حقيقة واقعة للجماهير.
متى يمكن أن تطير هذه المركبات المتطورة وكيف يمكن أن تبدو؟
نقل مليار شخص في الساعة يومياً
أحد الأمثلة على ذلك هو تاكسي فولوسيتي الجوي متعدد المراوح (VoloCity)، الذي صممته شركة تصنيع الطائرات الألمانية «فولوكوبتر» (Volocopter)، والذي يُتوقع أن يحلق في السماء بحلول عام 2024.
وقد أجرت طائرة فولوسيتي ذات المقعدين أكثر من 2,000 رحلة تجريبية وحصلت على اعتماد منظمة التصميم (DOA) بشأن حماية البيئة، والملاءمة التشغيلية
وإلى جانب طائرة فولوسيتي، تعمل «فولوكوبتر» أيضاً على انتاج زوج آخر من الطائرات الكهربائية، وهما طائرة «فولوريجون» (VoloRegion)، وهي عبارة عن مركبة تتسع لشخصين أو ثلاثة ركاب بحمولة 300-400 كجم للتنقل بين المدن والضواحي؛ وطائرة «فولودرون» (VoloDrone)، وهي طائرة بدون طيار مصممة لنقل البضائع بحموله تبلغ 200 كجم ومدى طيران يصل إلى 40 كم. وهذه الطائرات الثلاث متصلة بنظام «فولوكيو» (VoloIQ)، وهي منصة رقمية يستخدمها العملاء لحجز الرحلات الجوية.
وإلى جانب طائرة فولوسيتي، تعمل «فولوكوبتر» أيضاً على انتاج زوج آخر من الطائرات الكهربائية، وهما طائرة «فولوريجون» (VoloRegion)، وهي عبارة عن مركبة تتسع لشخصين أو ثلاثة ركاب بحمولة 300-400 كجم للتنقل بين المدن والضواحي؛ وطائرة «فولودرون» (VoloDrone)، وهي طائرة بدون طيار مصممة لنقل البضائع بحموله تبلغ 200 كجم ومدى طيران يصل إلى 40 كم. وهذه الطائرات الثلاث متصلة بنظام «فولوكيو» (VoloIQ)، وهي منصة رقمية يستخدمها العملاء لحجز الرحلات الجوية.
وفي إطار المنافسة مع «فولوكوبتر»، تعمل شركة «ليليوم» (Lilium) على نشر تقنية الطائرات العمودية الكهربائية في منظومة النقل الإقليمي طويل المدى بين المدن. ومن المقرر أن تطلق أولى الرحلات التجارية على متن طائرتها الكهربائية قريباً في عام 2024 في كل من فلوريدا والبرازيل وألمانيا التي تتخذها «ليليوم» مقراً لها. ويبلغ مدى طائراتها ذات الخمسة والسبعة مقاعد 280 كم وتعمل ببطارية ليثيوم أيون بقدرة 1 ميجاوات.
ويتوقع دانيال ويجاند، الرئيس التنفيذي لشركة «ليليوم»، أن تشهد هذه الصناعة نمواً هائلاً بحلول عام 2030. وبحلول ذلك الوقت، يعتقد دانيال أن الطائرات العمودية الكهربائية “ستصبح جزءاً من الحياة اليومية” [7]، وعندها سيكون النقل الجوي المكوكي هو المسار الشائع لخدمات الشحن والتاكسي الجوي ومشاهدة المعالم السياحية في شتى المدن حول العالم.
وتتوقع «ليليوم» نفسها أن يبلغ السعر المبدئي 2.25 دولار أمريكي لكل ميل للراكب الواحد، لتصبح التكلفة مع مرور الوقت مماثلة لتكلفة القطارات فائقة السرعة أو وسائل النقل البري الأخرى. وتتصور الشركة نظاماً سريعاً للصعود إلى الطائرة يعتمد على البوابات الدوارة، في تناقض صارخ مع الساعات المهدرة التي يقضيها الركاب عادةً في المطارات التقليدية.
كما تُعد شركة جميل لإدارة الاستثمار (JIMCO) من أوائل المستثمرين في شركة جوبي أفييشن، التي يقع مقرها الرئيسي في ولاية كاليفورنيا، وهي تنتج طائرة عمودية كهربائية تتسع لأربعة ركاب بالإضافة إلى طيار، ويمكن أن تصل سرعتها إلى 200 ميل في الساعة.
كما تُعد جوبي كذلك أول شركة من نوعها تحصل على شهادة الصلاحية للطيران من قبل سلاح الجو الأمريكي.
كما تُعد جوبي كذلك أول شركة من نوعها تحصل على شهادة الصلاحية للطيران من قبل سلاح الجو الأمريكي.
وتتوقع الشركة إطلاق خدمة التاكسي الجوي في عام 2024، مستهدفة “نقل مليار شخص في الساعة يومياً” مع شركات أخرى ضمن تحالف استراتيجي [8].
وهذا لا يعني فقط مساعدة العملاء من رجال الأعمال على التنقل من طرف مدينة إلى أخرى، بل أيضاً نقل السياح إلى أماكن العطلات البعيدة، أو تقديم المساعدات الإغاثية إلى المواقع المعزولة المتضررة من الكوارث الطبيعية
ومن بين الشركات الأخرى التي تتنافس على ترك بصمة مبكرة في سوق التنقل الجوي الكهربائي شركة «إيف» (EVE) البرازيلية العملاقة في مجال الطيران، ومؤسسة (CityAirbus NextGen) التابعة لاتحاد شركات إيرباص الفرنسية، وشركة «أوربان ايرونوتكس» (Urban Aeronautics) الإسرائيلية الناشئة.
هل تعد الطائرات بدون طيار بتحقيق مستقبل أقل ازدحاماً ؟
لا يقتصر الأمر على الأشخاص الذين يحتاجون إلى التنقل من مكان إلى آخر بكفاءة وبأسعار معقولة. بل يشمل أيضاً البضائع التي نعتمد عليها في منازلنا ومكاتبنا.
فالنقل البري عبر الشاحنات أو الشاحنات الصغيرة أو الدراجات النارية بطيء ومكلف ومضر بالبيئة. ويمكننا – بل ويجب علينا – بذل ما هو أفضل لتجاوز هذه التحديات.
ويبدو أن النقل الجوي الذاتي قد بات خياراً متاحاً لعمليات التوصيل إلى المنازل والشحن الخفيف، خاصة لدى عملاق التجارة الإلكترونية أمازون، حيث جرى الكشف عن خدمة «أمازون برايم إير» في عام 2016 وتمت تجربتها لاحقاً في كامبريدج بالمملكة المتحدة. واعتباراً من أواخر عام 2024، سيكون لدى عملاء أمازون في مواقع محددة في المملكة المتحدة وإيطاليا وثلاث مدن أمريكية خيار استلام مشترياتهم عبر الطائرات بدون طيار. [9]
وستعمل الطائرة بدون طيار MK30 من أمازون، وهي أكثر هدوءاً وأخف وزناً من سابقاتها، من مواقع التوصيل في نفس اليوم حاملةً طروداً يصل وزنها إلى 2.2 كجم.
وليست أمازون وحدها التي تسعى لتحقيق حلم توصيل الطلبات بالطائرات بدون طيار، فقد بدأت شركة «مانا» (Manna) الأيرلندية بالفعل في توصيل الوجبات ومشتريات البقالة والقهوة عبر الجو في دبلن بأيرلندا وتكساس بالولايات المتحدة الأمريكية.
وتستهدف الشركة إجراء 10 عمليات توصيل في الساعة، أي ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف معدل التوصيل لراكب السكوتر التقليدي. ومع نجاحها في اكمال 150,000 رحلة توصيل، تستعد «مانا» حالياً لمزيد من التوسع في جميع أنحاء أوروبا. [10]
وفي الوقت نفسه، تقف شركة «زيبلاين» (Zipline)، ومقرها سان فرانسيسكو، وراء مجموعة من المروحيات الصغيرة ذاتية القيادة – أو ”zips“ – التي تقوم بتوصيل الدم إلى المناطق النائية في رواندا منذ عام 2016.
ويضمن هذا الطراز من الطائرات بدون طيار وصول الإمدادات بانتظام إلى 350 مركزاً طبياً في مواقع نائية يصعب الوصول إليها. ويتم الآن تسليم ثلاثة أرباع شحنات الدم خارج العاصمة كيغالي عن طريق شركة «زيبلاين»، مما يقلل من أوقات الانتظار من عدة أيام إلى 30 دقيقة.
وقد انتشرت طائرات «زيبلاين» منذ ذلك الحين في جميع أنحاء أفريقيا، من غانا وكوت ديفوار إلى نيجيريا وكينيا. ومنذ عام 2022، تعمل الشركة أيضاً في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية (يوتا وأركنساس). وقد قامت طائراتها بدون طيار بتوصيل ما يقرب من 9 ملايين سلعة عبر أكثر من 60 مليون ميل، لصالح قطاعات تشمل الرعاية الصحية (الأدوية واللقاحات والأدوية) والمطاعم (الأطعمة الطازجة أو المصنعة) والزراعة (إمدادات الماشية) ومشتريات البقالة.
وبشكل عام، بلغ عدد الطرود التي تم تسليمها بواسطة الطائرات بدون طيار ما يقرب من 875,000 طرد في جميع أنحاء العالم في عام 2022، وهو ما يمثل قفزة بنسبة تزيد عن 80% عن العام السابق. وتسير عمليات التسليم لعام 2023 في طريقها لتجاوز عتبة المليون عملية تسليم للمرة الأولى. [11]
وفي حين أن هيمنة مركبات الأجرة الجوية وطائرات التوصيل بدون طيار على سمائنا وأجوائنا يبدو الآن أمراً مرجحاً، إلا أنه ليس حتمياً بعد – أو على الأقل لن يتحقق ضمن الأطر الزمنية الطموحة التي توقعها الكثيرون. فهناك عدد كبير من العقبات التي تنتظرنا في رحلتنا نحو مستقبل التنقل الجوي.
هل بالإمكان تجاوز التحديات أمام حلم التنقل الجوي؟
كثيرة هي التحديات التي تنتظر صناعة النقل الجوي الوليدة، ليس أقلها السلامة والضوضاء والجاهزية التجارية والبنية التحتية.
ومن أهمها توافر مهابط الطائرات الكهربائية العمودية، فلربما يكون الركاب معتادين على الانتظار لفترات طويلة عند السفر من المطارات العادية، لكنهم يتوقعون تجربة مختلفة من الطائرات الكهربائية. ولكي تصبح الطائرات الكهربائية لا غنى عنها حقاً، ستحتاج هذه الطائرات شبكة متكاملة من مواقع الإقلاع والهبوط التي يسهل الوصول إليها والموجودة في مواقع ملائمة داخل المدن.
ولهذا، تقترح شركة الاستشارات العالمية ”ماكينزي آند كومباني“ ثلاثة أنواع من المهابط:
- المراكز العمودية (Vertihubs): وهي هياكل يتم بناؤها لهذا الغرض ويكون بها عدد كبير من منصات الهبوط فضلاً عن محال للبيع بالتجزئة للركاب.
- القواعد العمودية (Vertibases): والتي يمكن أن تكون مبانٍ جديدة أو ملحقات بأسطح البنايات الكبيرة أو مواقف السيارات الموجودة بالفعل، ولديها مساحة لثلاث مهابط وبعض مساحات التخزين
- الحجيرات العمودية (Vertipods): عبارة عن منصة هبوط واحدة فقط، وهي وفقاً للتصور عبارة عن مرفق شخصي يقع على أرض خاصة، أو يخدم موقعاً ريفياً بعيداً أو ضاحية صغيرة.
وأياً كان النوع الذي سيقع عليه الاختيار، فغالباً ستتطلب جميع القواعد معدات شحن عالية السرعة. ويجري الآن بالفعل تطوير مرافق شحن سريعة جداً يمكنها شحن الطائرات ذاتية القيادة على الطريق، وهو ما يسمى بمراكز “الشحن السريع”. ولتقليل تكلفة تحديثات الشبكة، يمكن شحن مرافق التخزين الكهربائية في كل مركز هبوط ببطء عبر خطوط الطاقة العادية ثم تفريغها بسرعة في بطاريات الطائرات الإلكترونية بدون طيار عند الحاجة. وفي الوقت ذاته، يمكن أن تقلل مجموعات الألواح الشمسية المخصصة المتصلة بمنصات الطائرات الكهربائية العمودية من الضغط على الشبكة، مما يجعل التنقل الجوي المحايد للكربون في متناول أيدينا.
وستحتاج أي مدينة عازمة على تحديث وسائل نقل البشر والبضائع إلى تهيئة بيئة تشريعية مواتية لمنصات هبوط الطائرات الكهربائية العمودية وإقلاعها. وسيعني ذلك تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لضمان انتشار هذه الطائرات على نطاق واسع وفي الوقت المناسب.
ومع تبلور لوجستيات البنية التحتية، ستشمل التحديات الرئيسية الأخرى ما يلي:
- السلامة: ستحتاج الطائرات بدون طيار إلى درجة كبيرة من الاستقلالية بمجرد أن تتجاوز الحاجة إلى القيادة الفردية. وستكون هناك حاجة إلى مجموعة من أجهزة الاستشعار المدمجة وخفيفة الوزن للغاية لتجنب اصطدام الطائرات بدون طيار بالمباني أو الأبراج أو – الأسوأ من ذلك كله – الطائرات الأخرى التي تحلق في مسار قريب. وفي الأجواء المزدحمة بشكل متزايد، ستتطلب الطائرات بدون طيار اتصالات مستمرة مع الطائرات الأخرى عبر قنوات آمنة.
- الموقع / الملاحة: تعاني تقنية النظام العالمي لتحديد المواقع (GPS) من قيود كبيرة، ليس أقلها انقطاع الإشارات بسهولة بسبب وجود مبانٍ شاهقة قريبة. ولا شك في أن الملاحة هي العمود الفقري في منظومة تدعم العديد من الطائرات بدون طيار يسيرها مشغلين متعددين. لذا، ينبغي استبدال الاعتماد على الإشارات الخارجية بأنظمة ملاحة داخلية قوية، باستخدام قياسات الاتجاه والسرعة لقياس المواقع بدقة.
- الضوضاء: يمثل التلوث الضوضائي الناجم عن حركة المرور على الطرق ومسارات الطيران التقليدية مشكلة بالفعل لسكان المدن – وهي سبب معروف لاعتلال الصحة. فهل ستفقد الطائرات بدون طيار الدعم الشعبي الحيوي بإضافتها إلى هذا الضجيج الصاخب غير المرغوب فيه؟ يأتي الضجيج المنبعث من الطائرات بدون طيار من مراوحها الدوارة عالية السرعة. ومع ذلك، فإن مستويات الضوضاء المنبعثة من الطائرات بدون طيار لا تكاد تُذكر مقارنة بالطائرات المروحية التقليدية؛ فعلى سبيل المثال، سجلت شركة جوبي أفييشن ما يعادل 45.2 ديسيبل مرجح (dBA) من نموذجها الأولي على ارتفاع 500 متر، وبالكاد يمكن تمييزها عن الضوضاء المحيطة الأخرى على مستوى الأرض. [12] ومع ذلك، سيتعرض أولئك الذين يعيشون ويعملون بالقرب من مهابط هذه الطائرات لمستويات ضوضاء أكبر مع ارتفاع الطائرات بدون طيار وهبوطها، وهو ما يثير الحاجة أيضاً إلى مزيد من البحث في تكنولوجيا الحد من الضوضاء أثناء الإقلاع والهبوط.
- البرمجيات: لن تعمل حلول التنقل الجوي المتقدمة على الرحلات المجدولة مثل شركات الطيران التقليدية. وبالنظر إلى أن هذه الرحلات سيتم حجزها في غضون مهلة قصيرة، ومن ثم لا بد وأن يتمتع المشغلون بسعة الأسطول وخفة الحركة للتعامل مع الطلب المتقلب – ناهيك عن تطبيق متعدد الاستخدامات وموثوق وسهل الاستخدام لاستخدام العملاء.
- الصيانة: سيحتاج مشغلو الطائرات الكهربائية العمودية إلى حظائر طائرات بالقرب من المهابط لإجراء الصيانة الروتينية والإصلاحات غير المخطط لها، إلى جانب مهندسين مهرة لتنفيذ العمل.
- الأفراد: نظر لأن الطائرات بدون طيار ذاتية القيادة المرخص لها بحمل الأشخاص ما زالت بعيدة المنال، فقد يواجه مشغلو الطائرات الكهربائية نقصاً حاداً في الطيارين مع تسارع وتيرة الاستخدام خلال هذا العقد. وتشير توقعات ماكنزي إلى أن الصناعة قد تحتاج حوالي 60,000 طيار بحلول عام 2028، وسيقوم العديد منهم في نهاية المطاف بالإشراف على الرحلات الجوية من الأرض. ويشكك البعض فيما إذا كانت الصناعة تقوم بما يكفي لجذب وتدريب هذا العدد الجديد من الطيارين.
ولأن الكفاءة تُعد أمراً أساسياً لتحقيق الربحية وفق الحسابات التي قامت بها مؤسسة ماكينزي، فإن المدينة التي يوجد بها من 85 – 100 منصة هبوط يجب أن تسيّر ما يقرب من 10,000 رحلة يومياً – أي ما يعادل رحلة واحدة من كل منصة كل خمس دقائق في أوقات الذروة – كي تصبح التكلفة المطلوبة من كل مسافر متماثلة تقريباً مع تكاليف الرحلة التي تتم بواسطة وسائل النقل الجماعي الأخرى. [13]
البطاريات الجديدة تدفع الزخم في سوق التنقل الجوي
بينما تتسارع خطى ثورة التنقل الجوي بهدوء في سماء مدننا، تحدث ثورة أخرى في مختبرات الأبحاث في جميع أنحاء العالم – ثورة يمكن أن تجعل رؤية الطائرات الكهربائية العمودية أقرب إلى الواقع: بطاريات أفضل.
تظهر الدراسات أن تحقيق الجدوى الاقتصادية من تشغيل الطائرات الكهربائية العمودية، سيتطلب أن تصل كثافة طاقة البطارية إلى 400 واط/ساعة لكل كيلوغرام. فأين نحن من ذلك الآن؟ بطاريات تيسلا 3 الحالية، على سبيل المثال، تعمل فقط بسعة 260 واط/ساعة لكل كيلوغرام. لكن فريقاً بالمعهد الوطني لعلوم المواد في اليابان نجح في تصميم بطاريات ليثيوم-الهواء بقدرة 500 واط/ساعة لكل كيلوغرام، وهو إنجاز كفيل بتغيير قواعد اللعبة – خاصة إذا ما أثبتت جهودهم لتحسين قابلية إعادة الشحن والموثوقية جدواها أيضاً. [14]
أما بالنسبة للطائرات بدون طيار المستخدمة في توصيل الطرود، فلن يحتاج سوى القليل منها إلى حمل أكثر من 2 كجم من الوزن – وهذا من حسن الحظ، نظراً لأن حجم البطارية لا يزال يفرض قيوداً على الخدمات اللوجستية.
تدور إحدى الأفكار الأكثر اقتصادية حول طائرات التوصيل بدون طيار حول شاحنة كبيرة (مزودة بمنافذ للشحن السريع) تنقل أساطيل من الطائرات الصغيرة بدون طيار إلى موقع إطلاق محدد على مسافة متساوية من مواقع التوصيل المتعددة. وهذه “الخدمات اللوجستية للميل الأخير” هي سوق ضخمة تنتظر من يطرق أبوابها. ففي استطلاع حديث أجريَ في الصين، قال ما يقرب من ثلاثة أرباع المشاركين في الاستطلاع إنهم على استعداد لدفع رسوم إضافية مقابل توصيل أسرع بواسطة الطائرات بدون طيار. [15]
ورُغم أن الشحن الثقيل بواسطة الطائرات بدون طيار ذاتية القيادة لا يزال بعيد المنال، وربما يظل كذلك لعقود من الزمن، إلا أن شركة «فلاي باسكيت» (FlyingBasket) الإيطالية المصنعة للطائرات بدون طيار تقوم بنقل حمولات تزن 100 كجم على مسافات تصل إلى 10 كيلومترات، وهو إنجاز ثوري إذا ما ثبتت جدواه التجارية والتقنية.
والخلاصة أننا الآن على أعتاب مستقبل مثير بما يحمله من تطورات قد تمكنا في يوم من الأيام من تخفيف الضغط المتراكم على شبكات طرقاتنا ببطء عبر ”البعد الثالث“ المتمثل في النقل الجوي.
حقبة جديدة من الخدمات اللوجستية الجوية النظيفة والسريعة
لم تُعد الطائرات بدون طيار والطائرات الكهربائية العمودية مجرد حلم مستقبلي، بل هي بالفعل حقيقة واقعة نراها بأعيننا اليوم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى عام 2021، كان هناك بالفعل حوالي 377,000 طائرة تجارية بدون طيار مسجلة لدى إدارة الطيران الفيدرالية – بزيادة تصل إلى حوالي 100,000 طائرة عن السنوات الثلاث السابقة فقط. [16] وفي الهند، التي ابتليت بأسوأ مشكلات الازدحام في العالم، تشير الاستطلاعات إلى أن نصف المشاركين في الاستطلاع تقريباً على استعداد للتحوّل إلى التنقل الجوي لبعض الأنشطة قصيرة المدى. [17]
ويعتقد جيا شو، كبير مديري الاستراتيجية في شركة «هوني ويل» (Honeywell) الأمريكية العملاقة في مجال تكنولوجيا الطيران والفضاء، أنه في غضون سنوات ”قد يصبح من الطبيعي رؤية الطرود والركاب في المجال الجوي تماماً كما نرى الطيور والنحل“ في الجو، متوقعاً أن نكون على أعتاب ”العصر الذهبي الثاني للطيران“.[18]
وحتى لو كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن يكون هذا التحوّل تدريجياً وربما أبطئ مما يتوقعه المتفائلون. فلا يزال هناك في الوقت الحاضر نقص ملحوظ في مواقع الإقلاع والهبوط، ولا تزال الجدوى التجارية للرحلات الجوية فائقة القصر في بؤرة التركيز. وحتى إذا ارتفع الطلب، فمن المؤكد أن قلة الطائرات الكهربائية العمودية المتوفرة حالياً ستحد من انتشارها على نطاق واسع، وستبقى هناك تساؤلات بالطبع حول عدد الطيارين المؤهلين. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكافح هذه الصناعة للتغلب على تصورات السلامة العامة، لا سيما بالنظر إلى كثرة البدائل المتاحة للنقل قصير المدى في المدن. فمع وجود بنية تحتية شاملة بالفعل، فإن وسائل النقل التقليدية الأخرى، من القطارات والحافلات والترام، سيكون لها السبق مع احتدام المنافسة على الركاب.
ومع ذلك، ثمة مسار للربحية يفتح نافذة أمل لأولئك المقتنعين بأن الطائرات الكهربائية العمودية والطائرات بدون طيار هي أكثر من مجرد رحلة خيالية، إذ يمكن للمشغلين السعي لاستغلال المصادر الإضافية للإيرادات مثل خدمات البيع بالتجزئة ورسوم التطبيقات. ويمكن للشركات الخاصة تكوين تحالفات للاستثمار في إنشاء مهابط بالقرب من مقرات شركاتها لتحسين الكفاءة وتعزيز حضورها في ذات الوقت. وقد يبادر القطاع العام أيضاً بتوفير الدعم للمدن والولايات الحريصة على تحسين الرفاهية العامة أو تعزيز السياحة. وقد تفكر شركات المرافق العامة ومزودو الوقود في التعاون في مجال البنية التحتية وأجهزة الشحن. وفي الوقت المناسب، ستظهر نماذج جديدة للتأجير أو تقاسم الإيرادات لتشجيع تحويل أسطح البنايات ومواقف السيارات إلى مهابط باستخدام حلول ”البنية التحتية الرقمية“.[19]
في الواقع، وبفضل حماسة المستثمرين ذوي الرؤية الثاقبة مثل شركة «جيمكو» (JIMCO)، فإن المبتكرين في مجال التنقل الجوي لديهم كل الفرص لتجاوز التحديات التقنية الحالية والإبحار في عالم التنقل الجوي النظيف والفعال وميسور التكلفة.
والخلاصة أنه لا شيء يعوق تطلعاتنا إلى السماء، وما علينا سوى اغتنام الفرص.
[1] https://inrix.com/scorecard/
[2] https://www.bbc.co.uk/news/live/science-environment-67440257
[3] https://www.theguardian.com/environment/2023/nov/29/air-pollution-from-fossil-fuels-kills-5-million-people-a-year
[5] https://www.un.org/development/desa/en/news/social/urbanization-expanding-opportunities-but-deeper-divides.html
[6] https://assets.verticalmag.com/wp-content/uploads/2021/05/Morgan-Stanley-URBAN_20210506_0000.pdf
[7] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/speeding-up-everyday-travel-lilium-prepares-for-takeoff
[8] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/Rideshares-in-the-sky-by-2024-Joby-Aviation-bets-big-on-air-taxis
[9] https://www.aboutamazon.co.uk/news/operations/amazon-prime-air-drone-delivery-updates
[11] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/future-air-mobility-blog/commercial-drone-deliveries-are-demonstrating-continued-momentum-in-2023
[12] https://verticalmag.com/features/nasa-first-published-evtol-acoustic-test-data-set-stage-future/
[13] https://www.mckinsey.com/industries/automotive-and-assembly/our-insights/to-take-off-flying-vehicles-first-need-places-to-land
[14] https://www.sciencedaily.com/releases/2022/01/220120140724.html
[15] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/up-in-the-air-how-do-consumers-view-advanced-air-mobility
[16] https://www.forbes.com/sites/honeywell/2021/03/11/the-future-is-up-how-advanced-aerial-mobility-will-transform-transportation/?sh=41044042beb2
[17] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/up-in-the-air-how-do-consumers-view-advanced-air-mobility
[18] https://www.forbes.com/sites/honeywell/2021/03/11/the-future-is-up-how-advanced-aerial-mobility-will-transform-transportation/?sh=41044042beb2
[19] https://www.mckinsey.com/industries/automotive-and-assembly/our-insights/to-take-off-flying-vehicles-first-need-places-to-land