هل أصبحت وسائل النقل الجوي جاهزة للإقلاع أخيرا؟

Joby eVTOL Aircraft in flight. Photo Credit Joby Aviation
بعد أعوامٍ من التخطيط الدقيق والاستثمار الجريء والابتكار المستمر، يبدو أن العقد القادم سيشهد الانطلاقة الحقيقية لقطاع التنقّل الجوي الحضري، الذي يتهيأ اليوم للانتقال من صفحات التصاميم إلى سماء المدن، باسطاً جناحيه على المشهد العالمي، متحرّراً أخيراً من قيود الجاذبية الاقتصادية التي كبّلته طويلاً.
فالمفاهيم القديمة التي ربطت حركة البضائع بالطرق البرية والسكك الحديدية، وافترضت أن الناس لا يتنقّلون إلا بالسيارات والقطارات والحافلات — بدأت تتهاوى أمام جيلٍ جديدٍ من روّاد التكنولوجيا والنقل في السوق جعلوا من عبارة “الصاعدين إلى القمة” شعاراً حقيقياً لمهمتهم.
واليوم، تقترب الشركات الرائدة في مجال طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية (eVTOL) من تحقيق لحظتها الفارقة، إذ تتسارع خطواتها نحو التشغيل التجاري بعد أن أطلقت العديد منها نماذجها الكاملة بالحجم الحقيقي، بينما نجحت أخرى في اجتياز مراحل أساسية ضمن برامج الاعتماد الوطنية.
وعلى الصعيد العالمي، يُتوقّع أن تبلغ قيمة سوق التنقّل الجوي الحضري نحو 14.5 مليار دولار أمريكي بنهاية هذا العام، أي بزيادة تقارب 20% خلال فترة لا تتجاوز 12 شهراً، وهو منحى يعكس توجهاً طويل الأمد قد يدفع بالقطاع إلى بلوغ قيمة تقديرية تصل إلى 87.6 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2034، بمعدل نمو سنوي مركّب يبلغ 22.1%. [1]

أما في الأفق الأبعد، فالتقديرات تشير إلى أن قطاع الطائرات من دون طيار وحده سيحقق بحلول منتصف هذا القرن إيرادات سنوية تُقدّر بنحو 90 مليار دولار أمريكي، مع ما يقارب 160 ألف طائرة مُسيّرة تحلّق في سماء العالم، في مشهدٍ يُجسّد مستقبلاً كان يُعدّ يوماً من ضروب الخيال العلمي. [2]
إن التمعّن في واقع هذه الصناعة الناشئة، ومتابعة ما يُشغَّل من طائراتٍ وأين تحلّق تحديداً، يقدّمان صورة مذهلة لقطاعٍ لم يكن له وجود فعلي قبل عقدٍ واحد فقط.
فبحسب بيانات السوق، تستحوذ الولايات المتحدة الأمريكية على أكثر من 37% من النشاط الاقتصادي الإجمالي في قطاع التنقّل الجوي الحضري خلال عام 2025، فيما تُعد آسيا وأوقيانوسيا المنطقتين الأسرع نمواً عالمياً. .[3]

ومع التسارع الهائل في التطورات التقنية والتشريعية وبرامج الاعتماد، جاء العام الأخير حاملاً معه سلسلة من المحطات البارزة التي رسّخت مكانة هذا القطاع كأحد أكثر مجالات التكنولوجيا والنقل تطوراً في العالم.
ما مدى سرعة تطوّر قطاع التنقّل الجوي العالمي؟
يشهد قطاع التنقّل الجوي الحضري (UAM) اليوم ازدهاراً عالمياً غير مسبوق، إذ يتجاوز عدد المشاريع الجارية حول العالم 850 مشروعاً في مراحل مختلفة من التطوير والتنفيذ، ما يؤكد أن هذا القطاع يواصل التحليق عالياً دون أن تُبطئه التحديات. [4]
ومن بين أبرز الشركات التي تتصدر المشهد، تبرز شركة «جوبـي أفييشن» (Joby Aviation) الأمريكية، التي تتخذ من ولاية كاليفورنيا مقراً لها. وقد نالت في مراحلها الأولى دعماً مالياً مبكراً من مؤسسات كبرى مثل شركة تويوتا و عبد اللطيف جميل لإدارة الاستثمارات (JIMCO)، ذراع الاستثمار العالمي لعائلة جميل. ومنذ استثمارها الأول في الشركة عام 2020، تابعت عبد اللطيف جميل مسيرتها مع جوبـي بخطوات متسارعة، حيث أعلنت في يونيو 2025 عن توقيع اتفاقية استراتيجية تهدف إلى تسريع توزيع طائرات التنقّل الحضري في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. [5]
وبموجب هذه الاتفاقية، تتولى «جوبـي أفييشن» تصنيع وتوريد ما يصل إلى 200 طائرة، إلى جانب تقديم خدمات الدعم الفني والتشغيلي، في صفقةٍ تُقدّر قيمتها بنحو مليار دولار أمريكي، ما يجعلها ركيزة محورية ضمن رؤية السعودية 2030 الرامية إلى تنويع الاقتصاد وتعزيز التنمية المستدامة.
وفي الشهر ذاته، عزّزت الشركة زخمها بإنجازٍ لافت في دبي، حيث نفّذت بنجاح سلسلة من اختبارات طائرات الإقلاع والهبوط العمودي من دون طيّار، لتؤكد جاهزيتها التشغيلية وتُثبت تفوقها التقني في ميدانٍ تتسابق فيه كبريات الشركات العالمية.
وقد مثّلت تلك الرحلات التجريبية خطوة مفصلية في مسيرة القطاع بأسره، إذ أكدت قربه من التشغيل التجاري الكامل، ودعمت خطط «جوبـي أفييشن» لنقل أولى دفعات الركاب مقابل أجر بحلول عام 2026. وحتى الآن، سجّلت طائرات الشركة أكثر من 40 ألف ساعة طيران تجريبية، لتصبح بذلك واحدة من أكثر الطائرات اعتماداً في فئتها. وعند دخولها الخدمة الكاملة، سيعمل أسطول طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية من جوبـي على نقل سكان دبي وزوارها بين وجهات المدينة المختلفة بسرعة وأمان، في تكامل تام مع وسائل التنقل الفردية الأخرى مثل السكوترات الكهربائية والدراجات مُعلنةً بذلك بداية عصرٍ جديد من السفر المتعدد الوسائط، السلس والمستدام.

وتبرز الكفاءة كإحدى أبرز مزايا هذا النوع من النقل؛ فبينما تستغرق الرحلة من مطار دبي الدولي إلى نخلة جميرا نحو 45 دقيقة بالسيارة، يمكن قطعها جواً في 12 دقيقة فقط، من دون أي انبعاثات كربونية. فالأربعة ركاب، إلى جانب الطيار، الذين يحلّقون بسرعة 200 ميل في الساعة على متن طائرة «جوبـي» الكهربائية، لن يخلّفوا أي أثرٍ من الوقود المحترق، مما يسهم في حماية البيئة والحفاظ على نقاء هواء المدينة. [6]
وفي إطار هذه الرؤية الطموحة، بدأت الشركة في نوفمبر من العام الماضي إنشاء أول مهبط لطائراتها العمودية ضمن شبكة متكاملة لخدمة التاكسي الجوي في دبي، على أن يكون موقعه في مطار دبي الدولي، قبل التوسع لاحقاً إلى ثلاثة مواقع إضافية في نخلة جميرا ووسط المدينة ومرسى دبي.
ولا تقتصر الخطط الإماراتية لتطوير طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية على دبي وحدها، بل تمتد لتشمل مشروعاً لإنشاء ممر جوي بين الإمارات يربط دبي برأس الخيمة، الواقعة على بعد أكثر من 100 كيلومتر شمالاً. ويُنفَّذ هذا المشروع بالشراكة بين «جوبـي أفييشن» وهيئة رأس الخيمة للمواصلات وشركة «سكايبورتس» (Skyports)، ومن المتوقع إطلاقه بحلول عام 2027. وتشمل مواقع المهابط العمودية في رأس الخيمة جزيرة المرجان، المنتجع السياحي الضخم قيد الإنشاء، وجبل جيس، أعلى قمة في دولة الإمارات، حيث من المتوقع أن تختصر طائرات التاكسي الجوي زمن الرحلة بين مطار دبي الدولي وجزيرة المرجان من أكثر من ساعة برّاً إلى نحو 15 دقيقة فقط جواً.
وخارج منطقة الشرق الأوسط، واصلت «جوبـي أفييشن» استعراض قدراتها عالمياً، فقد قدّمت في سبتمبر الماضي عرضاً مدهشاً خلال معرض «إكسبو 2025» في أوساكا اليابان، أبهرت فيه الحضور بعرضٍ تجريبي لطائرة التاكسي الجوي، هو الأول من نوعه في معرض عام مفتوح. وشمل العرض مناورات إقلاع وهبوط عمودي والتحول الكامل إلى الطيران الأفقي بالجناحين، في مشهدٍ يجسد مستقبل التنقّل الجوي كما تخيله المبدعون منذ عقود. ويأتي هذا العرض في إطار رؤية الشركة لبناء منظومة وطنية للتاكسي الجوي في اليابان بالتعاون مع شريكها المحلي «إيه إن إيه هولدينجز» (ANA Holdings)، مع خططٍ لإطلاق المشروع تدريجياً بدءاً من العاصمة طوكيو.
أما على الصعيد التشريعي، فقد شهد الشهر ذاته خطوة مهمة بانضمام «جوبـي أفييشن» إلى البرنامج التجريبي لتشغيل طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية في الولايات المتحدة (eIPP)، وهي مبادرة تهدف إلى ربط مطوري هذه الطائرات بشركات الطيران والحكومات المحلية لاختبارها في ظروف تشغيل واقعية. ومن المنتظر أن تُسهم نتائج هذه التجارب في تزويد الجهات التنظيمية ببيانات دقيقة حول الأداء والسلامة، لتُصبح لاحقاً مرجعاً لاعتماد أنظمة التصديق المستقبلية في هذا القطاع المتطور.
وعلى نطاق أوسع، تعمل منظمات دولية أخرى على تهيئة الأطر القانونية والتشريعية اللازمة لضمان جاهزية الأسواق حين تصل هذه الصناعة إلى مرحلة الانتشار الواسع، بما يضمن تشغيلاً آمناً ومنظماً. ومن أبرز هذه الجهود، ما تقوم به وكالة سلامة الطيران الأوروبية (EASA) من إعداد معايير خاصة بطائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية، تغطي تراخيص التشغيل، وبروتوكولات السلامة، وإدارة الحركة الجوية، تمهيداً لدمج هذه الطائرات بسلاسة في الأجواء الأوروبية.
أما شركة «جوبـي أفييشن» نفسها، فهي تمضي بثبات نحو الحصول على الضوء الأخضر من الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة، بعد أن حققت هذا العام تقدّماً ملموساً بوصولها إلى المرحلة الرابعة من أصل خمس مراحل ضمن عملية اعتماد الطراز التي تشرف عليها هيئة الطيران الفيدرالية الأمريكية (FAA). وتعتزم الشركة بدء الاختبارات بمشاركة طياري الهيئة مطلع العام المقبل، تمهيداً للانتقال إلى المرحلة النهائية من إجراءات الاعتماد التي ستفتح الباب أمام تشغيلها التجاري الكامل.
وفي السياق ذاته، تقترب شركة «آرتشر أفييشن» (Archer Aviation)، التي تتخذ من ولاية كاليفورنيا مقراً لها، من إنهاء اختبارات الطيران الداخلية لطائرة التاكسي الجوي «ميدنايت» (Midnight)، استعداداً لبدء إجراءات الاعتماد التشغيلي من هيئة الطيران الفيدرالية خلال العام المقبل. وتطمح الشركة إلى إطلاق خدماتها التجارية رسمياً بالتزامن مع دورتي الألعاب الأولمبية والبارالمبية في لوس أنجلوس عام 2028، حيث ستتولى دور المزوّد الرسمي لخدمات التاكسي الجوي خلال هذا الحدث العالمي، لتصبح بذلك إحدى أولى الشركات التي تنقل النقل الجوي الحضري من أرض التجارب إلى واقع الحياة اليومية.
واستباقاً للحصول على الموافقات التنظيمية، بدأت شركات التنقّل الجوي بالفعل في تسريع وتيرة الإنتاج، لتواكب الطلب المتوقع على هذا النمط من النقل الجديد. فعلى سبيل المثال، يخطط مسؤولو «جوبـي أفييشن» لمضاعفة قدرتهم الإنتاجية إلى 24 طائرة سنوياً في مصنعهم الممتد على مساحة 435 ألف قدم مربعة في مدينة مارينا بولاية كاليفورنيا، إلى جانب التوسّع في منشآتهم التصنيعية في مصنع «دايتون» بولاية أوهايو، ما يعكس الانتقال الفعلي من مرحلة التطوير إلى التصنيع على نطاق تجاري واسع.

ويبدو أن هذا التوجه لم يعد حكراً على الولايات المتحدة، بل أصبح ظاهرة عالمية متنامية. ففي يوليو الماضي، أعلنت شركة «إير» (AIR) – وهي شركة شرق أوسطية متخصصة في تصنيع طائرات التنقّل الجوي الحضري – عن افتتاح مصنع جديد تبلغ مساحته 32 ألف قدم مربعة، بهدف تسريع إنتاج سلسلة متوسطة الحجم من طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية. وقد ضاعفت الشركة عدد موظفيها خلال العام الماضي للمساعدة في تسليم 15 طائرة شحن بدون طيار، إلى جانب تلبية 2,500 طلب مسبق لطائرتها «إير ون» (AIR ONE)، وهي طائرة شخصية يقودها طيار وتُعدّ من أبرز ابتكاراتها في مجال النقل الجوي الفردي. [7]
وفي الشرق الأقصى، تواصل شركة «إي-هانغ» (EHang) الصينية، الرائدة في تطوير المركبات الجوية الذاتية القيادة، تعزيز موقعها العالمي عبر توسيع قدراتها التصنيعية والتقنية. ففي فبراير 2025 أعلنت الشركة عن شراكة استراتيجية لإنشاء قاعدة تصنيع متقدمة لطائراتها المخصصة للتحليق على ارتفاعات منخفضة داخل المدن. وستقام القاعدة الجديدة في مدينة «خفي» (Hefei) بمقاطعة «أنهوي» (Anhui)، لتكون مركزاً لإنتاج المكوّنات الرئيسة للطائرات وتصميم نماذج قياسية لها، في خطوة تهدف إلى توحيد معايير الصناعة وتعزيز التكامل التقني في المنطقة. [8]
قطاع التنقّل الجوي الحضري يشهد موجة متسارعة من الابتكارات التقنية
تشير هذه التطورات مجتمعة إلى تصاعد الثقة الاقتصادية في قطاع التنقّل الجوي الحضري، وهي ثقة يوازيها تسارع مذهل في وتيرة الابتكار التقني الذي أصبح المحرك الأبرز لنمو هذا المجال.
فطلبات تسجيل براءات الاختراع الجديدة تتزايد بوتيرة عالية في أنحاء العالم، لتشمل ابتكارات تركّز على تعزيز قدرة الطائرات على حمل أوزان أكبر، وتطوير أبواب مقصورات أكثر سهولة في الدخول والخروج، إلى جانب أجنحة مزودة بمراوح قابلة للإمالة لتوليد دفع أمامي أكثر كفاءة — وهي جميعها تحسينات تسعى إلى رفع كفاءة الأداء وتوزيع الوزن وتقليل مقاومة الهواء، بما يعزّز كفاءة الأداء واستدامة الرحلات الجوية داخل المدن. 9]
وفي موازاة ذلك، تحقق تقنيات البطاريات وأنظمة الشحن – التي تُعدّ العمود الفقري لرؤية التنقّل الجوي – قفزات نوعية في كثافة الطاقة وسرعة الشحن وطول عمر البطاريات، ما يمهّد الطريق أمام أداء أكثر كفاءة واقتصادية واستدامة.
ويُظهر سوق براءات الاختراع العالمي هذه الاتجاهات بوضوح، مبرّراً الارتفاع الكبير في الاستثمارات الموجّهة إلى البحث والتطوير. فقد قفز عدد براءات الاختراع في قطاع التنقّل الجوي الحضري من 67 براءة عام 2014 إلى 379 براءة في عام 2023، لتشمل مجالات واسعة مثل تصميم فتحات أمتعة سهلة الوصول، وتحسين كفاءة استهلاك الطاقة، وتطوير تقنيات الإقلاع في المساحات المحدودة، وتقليل مقاومة الهواء الديناميكية. وخلال عقد العشرينيات وحده، تصدّرت الولايات المتحدة الأمريكية المشهد بـ 988 براءة اختراع معتمدة، تلتها الصين بـ 607، ثم جمهورية كوريا بـ 251، واليابان بـ 202، وألمانيا بـ 152، ما يُبرز المراكز العالمية الكبرى للبحث والتطوير والاستثمار في هذا القطاع. 10]
كما يشهد علم المواد بدوره ابتكارات مدهشة، كان أبرزها ظهور بطاريات الليثيوم–الكبريت عام 2024، والتي بلغت كثافة طاقتها 400 واط-ساعة لكل كيلوجرام، أي أعلى بنسبة 60% من أنظمة الليثيوم-أيون التقليدية، وهو تطور يُعدّ قفزة حقيقية نحو مستقبلٍ أكثر استدامة وكفاءة. [11]
غير أن البطاريات وحدها لا تكفي، فإعادة الشحن تظلّ عنصراً حاسماً في المعادلة التشغيلية. وهنا يبرز دور شركة «بيتا تكنولوجيز» (Beta Technologies)، وهي شركة أمريكية متخصصة في الطائرات الكهربائية تتخذ من ولاية فيرمونت مقراً لها، وتعمل على إنشاء شبكة من محطات الشحن السريع لدعم الانتشار الواسع لطائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية. فعلى سبيل المثال، تُعدّ محطتها في مطار «مارشفيلد» المحلي أول محطة شحن عامة للطائرات في ولاية ماساتشوستس، وقد تبعتها ولايات أخرى مثل كارولاينا الشمالية وألاباما وميسيسيبي بخططٍ لإنشاء منشآتها الخاصة بالشحن الجوي السريع.
ومع هذا التقدّم المتسارع، بات مفهوم التنقّل الجوي الحضري يتسلّل تدريجياً إلى وعي المجتمعات حول العالم، فيما بدأت الفوارق الإقليمية تتضح بين الدول من حيث جاهزيتها لاستقبال هذا التحول الكبير. وهنا يبرز السؤال الأهم: أيُّ مناطق العالم تستعد حقاً للتحليق نحو مستقبل النقل الجوي الحضري؟
ما هي المناطق التي تتصدر مشهد التنقّل الجوي الحضري؟
برزت منطقة الشرق الأوسط في وقتٍ وجيز كإحدى أبرز المراكز العالمية الواعدة في ميدان أبحاث وتطبيقات التنقّل الجوي الحضري. وقد لعبت دولة الإمارات العربية المتحدة دور الريادة في هذا التحوّل المتسارع، بعدما استقطبت استثمارات بمليارات الدولارات، وأسّست شراكات استراتيجية رئيسة جمعت بين مصنّعي الطائرات وجهات حكومية رائدة مثل هيئة الطرق والمواصلات في دبي، ودائرة التنمية الاقتصادية في أبوظبي، والهيئة العامة للطيران المدني. ومع كونها سادس أعلى دولة في العالم من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، تمتلك الإمارات بالفعل مجتمعاً جاهزاً من العملاء المحتملين لخدمات طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية، ما يجعلها بيئة مثالية لتبنّي مستقبل النقل الجوي الحضري. [12]
ويُعد التنسيق بين الأطراف الفاعلة ركيزة أساسية في نجاح هذا القطاع الناشئ. فقد انضمت شركات «جوبـي أفييشن» و«آرتشر» و«إي-هانغ» و«ريجِنت» – الرائدة في تطوير الطائرات البحرية الكهربائية المنزلقة – إلى مجمّع صناعة المركبات الذكية ذاتية القيادة في أبوظبي، وهو شبكة من مرافق البحث والاختبار والتصنيع التي ترعاها الحكومة. ومن المنتظر أن يُسهم هذا المجمع في ضخ نحو 44 مليار درهم في اقتصاد الإمارة، وتوفير ما يزيد على 35 ألف فرصة عمل 13]، بما يعزز مكانة العاصمة كمركز إقليمي وعالمي لصناعة التنقّل الذكي. كما تستعد أبوظبي في نوفمبر الجاري لاستضافة النسخة الثانية من معرض «دريف تي إكس» (DRIFTx)، الذي يسلّط الضوء على أحدث التقنيات في مجال النقل الذاتي، بعد أن استقطبت دورته السابقة أكثر من 8 آلاف مشارك من 65 دولة.
وفي المقابل، تواصل الولايات المتحدة الأمريكية ترسيخ موقعها الريادي بفضل امتلاكها مركز التكنولوجيا العالمي في وادي السيليكون، الذي يشكّل القلب النابض للابتكار في هذا المجال. فاستثماراتها الضخمة في البحث والتطوير، إلى جانب بيئتها التنظيمية المرنة، تُسهم في تسريع وتيرة النمو وتعزيز تنافسية السوق المحلية. وتشير التوقعات إلى أن حجم سوق التنقّل الجوي الحضري في الولايات المتحدة سيبلغ نحو 5.8 مليارات دولار أمريكي بحلول عام 2032، بمعدل نمو سنوي مركّب يبلغ 17.5%، مدفوعاً بالطلب المتزايد على حلول النقل المستدامة والذكية في المدن الكبرى. [14]
أما منطقة آسيا والمحيط الهادئ، التي تشهد توسعاً حضرياً متسارعاً وتحديات مرورية متزايدة، فتتهيأ لاستثمار الإمكانات الضخمة التي يتيحها النقل الجوي داخل المدن. وتبدو الصين مرشحة لقيادة هذا التوجّه الإقليمي بفضل تركيزها الكبير على التكنولوجيا واستثماراتها الواسعة في الأسواق المالية. ففي خطوة وُصفت بأنها نقطة تحوّل في تاريخ القطاع، حصلت شركة «إي-هانغ» الصينية هذا العام على تراخيص لتشغيل طائرات التاكسي الجوي ذاتية القيادة لنقل الركاب في مدن مثل قوانغتشو وخفي، فيما بدأت شركة «شيري» (Chery) المنافسة إجراءات الاعتماد التنظيمي في أكتوبر 2025. وتعتمد الصين خطة وطنية طموحة لتطوير ما يُعرف بـ«اقتصاد الارتفاعات المنخفضة»، تشمل دعماً حكومياً واسعاً لقطاعات النقل الفردي والخدمات اللوجستية والطائرات المسيّرة. وتشير التقديرات إلى أن حجم سوق التنقّل الجوي الحضري في آسيا والمحيط الهادئ سينمو بمقدار خمسة أضعاف، من 800 مليون دولار أمريكي في عام 2023 إلى 3.9 مليارات دولار أمريكي بحلول عام 2032. [15]
أما أوروبا، فتمضي بخطى ثابتة نحو تعزيز حضورها في هذا القطاع، مدفوعةً بتركيزها الكبير على الاستدامة وتقليل الانبعاثات الكربونية. ففي مختبرات التصميم ومصانع القارة، يجري تطوير جيلٍ متقدّم من طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية والطائرات المسيّرة، لتلبية احتياجات متنوعة تشمل نقل الركاب وتسليم البضائع والاستجابة لحالات الطوارئ. وتعمل المفوضية الأوروبية من خلال «استراتيجية الطائرات المسيّرة 2.0» (Drone Strategy 2.0) على دعم أبحاث وتطوير الطائرات ذاتية القيادة في أنحاء القارة، مستندةً إلى أنظمة المجال الجوي الأوروبي (U-Space) التي وضعتها وكالة سلامة الطيران الأوروبية (EASA) لضمان تشغيل آمن ومنظم لهذه المركبات في الأجواء الأوروبية. كما أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة «مجتمع مدن التنقّل الجوي الحضري» (UIC2)، وهي مشروع تعاوني على مستوى المدن يهدف إلى تسريع التحوّل الآمن والمستدام نحو استخدام الطائرات العمودية في النقل الحضري .[16] وتشير التوقعات إلى أن السوق الأوروبية ستسجّل قفزة كبيرة لتصل إلى نحو 4.2 مليارات دولار أمريكي بحلول عام 2032، بمعدل نمو سنوي مركّب يبلغ 18.2%. .[17]
ورغم أن المؤشرات الراهنة توحي بأن الانطلاقة الحقيقية لصناعة التنقّل الجوي أصبحت وشيكة، فإن طريقها نحو القمة لا يخلو من العوائق والتحديات.
من أين يأتي التمويل في قطاع التنقّل الجوي الحضري؟
على الرغم من أن الصناعة تقترب من مرحلة الانطلاق التجاري، فإنها تواجه في الوقت نفسه تحديات تمويلية ملموسة نتيجة تباطؤ تدفقات رأس المال الاستثماري عالمياً. فتماشياً مع التراجع العام في استثمارات رأس المال المغامر عبر مختلف القطاعات، بلغ حجم التمويل الموجّه لتقنيات التنقّل الجوي الحضري في عام 2024 أقل قليلاً من 4 مليارات دولار أمريكي، مقارنة بذروة بلغت 6.8 مليارات دولار أمريكي في عام 2021.
ويُعد التمويل حجر الأساس في هذه الصناعة الباهظة التكلفة، إذ تتراوح كلفة تطوير واختبار كل طاز جديد من الطائرات حتى الحصول على الاعتماد الرسمي بين مليارٍ ومليارين من الدولارات الأمريكية. كما تشكّل إدارة سلاسل التوريد وتوفير المكونات على نحوٍ مستقر وفعّال تحدياً مالياً كبيراً يتطلب استثمارات ضخمة. ولهذا، فإن بناء قاعدة تمويلية قوية ومتعددة المصادر يُعدّ شرطاً أساسياً لتأسيس أساطيل الطائرات قبل الوصول إلى مرحلة الربحية التشغيلية الفعلية. [18]
ورغم الفجوات التمويلية المحتملة التي تُلقي بظلالها على بعض الشركات، لا تزال الثقة في مستقبل هذا القطاع عند أعلى مستوياتها، إذ تشهد دفاتر الطلبات وخيارات الشراء وخطابات النوايا حركة نشطة تعكس حيوية السوق وتنامي الطلب العالمي على حلول النقل الجوي الحضري. وتشير التقديرات إلى أن القيمة الإجمالية للطلبات الحديثة في هذا القطاع تبلغ نحو 168 مليار دولار أمريكي، موزعة على ما يقارب 35 ألف مشروع أو صفقة مستقلة حول العالم، في مؤشر واضح على ثقة المستثمرين والمستهلكين بآنٍ واحد. [19]
وتُسهم الدفعات المسبقة قبل التسليم، التي تُعد عنصراً أساسياً في العديد من العقود، في سد فجوة التمويل ودعم الشركات المطوّرة خلال المرحلة المكلفة من إجراءات الاعتماد والتصديق. كما تسهم الشراكات مع شركات الطيران والسيارات الكبرى في توفير الخبرة التقنية، وتعزيز ثقة المستهلكين في العلامات التجارية الجديدة التي ما زالت تخطو خطواتها الأولى في هذا القطاع الواعد.
ومع نضوج السوق، يُتوقّع أن تتراجع مخاوف الشركات المصنّعة، إذ من المرجّح أن تنتقل مصادر التمويل تدريجياً من رؤوس الأموال المغامرة إلى الاستثمارات المؤسسية التقليدية، ولا سيّما عبر صناديق الأسهم الخاصة. كما يُنتظر أن تلعب المؤسسات المالية الكبرى وصناديق الثروة السيادية دوراً محورياً في ضمان السيولة واستقرار النمو، الأمر الذي سيمنح القطاع قاعدة تمويلية أكثر رسوخاً واستدامة.
وحالما يتبلور مسار واضح ومعتمد لعمليات التصديق والاعتماد، وتتحوّل الصناعة من كونها قطاعاً تجريبياً متقدّماً إلى صناعة راسخة في السوق، فإن مستوى المخاطرة سيتراجع بدرجة كبيرة، مما يمهّد الطريق لموجة جديدة من التمويل تدفع بعجلة هذا القطاع نحو مرحلة التوسّع التجاري الكامل.
كيف يمكن جعل النقل الجوي الحضري ميسور التكلفة؟
رغم ما يفرضه نقل الركاب جواً من تحديات اقتصادية وبنية تحتية معقدة، فإن العوائد المتنامية من خدمات الطائرات المسيّرة لتوصيل الطرود قد تمثل رافداً مالياً مهماً لدعم نمو الصناعة بأكملها.
فقد شهد عام 2023 تنفيذ أكثر من 800 ألف عملية تسليم تجاري حول العالم عبر الطائرات المسيّرة، وهي مجرد بداية لمسار تصاعدي يُتوقّع أن يتضاعف بحلول عام 2035، مولّداً إيرادات تصل إلى نحو 5 مليارات دولار أمريكي سنوياً. [20]
كما أن المجتمعات باتت اليوم أكثر استعداداً لتقبّل فكرة وجود حركة مرور جوية على ارتفاعات منخفضة داخل المدن. فقد أظهر استطلاع موسّع أجرته شركة «ماكينزي» حول توصيل الطرود بالطائرات المسيّرة أن الغالبية الساحقة من المشاركين تؤيد إدخال هذه التقنية إلى حياتهم اليومية. [21] وأشار الاستطلاع، الذي شمل ستّاً من كبرى الاقتصادات العالمية — هي الولايات المتحدة، الصين، الهند، ألمانيا، البرازيل، والمملكة العربية السعودية — إلى أن 83% من المستطلعين على دراية بمفهوم توصيل الطرود جواً، فيما أبدى 76% منهم استعدادهم لاستخدام هذه الخدمة، وهي زيادة نسبتها 19% مقارنةً بنتائج عام 2021. [22]

ومع تحوّل رحلات التاكسي الجوي إلى واقعٍ يومي مألوف، يُتوقّع أن تصبح هذه الخدمات متاحة وميسورة التكلفة لشرائح واسعة من السكان، لا حكراً على فئة محدودة من النخبة. فرغم أن الرحلة ستكون فعلاً «في السماء»، فإن أسعارها يُنتظر أن تبقى واقعية ومقبولة لمعظم سكان المدن، إذ تستهدف الشركات نطاقاً سعرياً مبدئياً يتراوح بين 3 و8 دولارات أمريكية للميل الواحد [23]. وتمثل هذه الأسعار نقطة توازن اقتصادية مثالية للمسافرين من رجال الأعمال والسياح، ومن المرجّح أن تواصل انخفاضها تدريجياً مع انتشار هذه الخدمات ودخول المنافسين الجدد إلى السوق.
وفي مفارقة لافتة، قد تجد طائرات التاكسي الجوي دعماً غير متوقّع من الجهات المدافعة عن البيئة، إذ تُظهر الدراسات أن طائرات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية تُصدر — عند احتساب كامل سلسلة الإمداد بالطاقة — ما لا يتجاوز 15% من انبعاثات الطائرات والمروحيات التقليدية الصغيرة، ما يمنحها تفوقاً واضحاً في سباق الاستدامة البيئية. [24]
وقد تشكّل التطوّرات الجارية في قطاع التنقّل الجوي الحضري منعطفاً حاسماً في تاريخ النقل البشري — فاصلاً بين زمنٍ كان فيه التحليق داخل المدن حلماً بعيد المنال، وزمنٍ باتت فيه السماء امتداداً طبيعياً للطريق. ففي حين أننا ما زلنا محكومين بالأرض في عام 2025، نراقب السماء الخالية ونحن عالقون في زحام الطرق، غير أنّ الأعوام القليلة المقبلة قد تحمل تحولاً جوهرياً يجعلنا نحلق فوق أجواء المدن على ارتفاعات منخفضة، نتنقّل بين أطرافها بسرعةٍ وسلاسة.
وربما تنظر الأجيال القادمة، التي ستنشأ على واقعٍ معتاد من الرحلات الجوية القصيرة داخل المدن، إلى أيامنا هذه بدهشة، متسائلةً كيف أننا تمكّنّا يوماً من عيش حياتنا دون هذا النمط من النقل؟
إن المهندسين ومخططي المدن والعملاء المحتملين يشتركون جميعاً في حماستهم المتزايدة تجاه هذه الثورة الجوية المقبلة. فمع بدء التجارب الحية في عدد من المدن حول العالم، واستعداد الجهات التنظيمية لوضع الأطر التشريعية اللازمة ، يبدو أن طائرات الركاب المسيّرة والشحن الجوي الذكي ستصبح قريباً القطعة الأخيرة التي تكتمل بها لوحة المدن الذكية المدفوعة بالذكاء الاصطناعي. وبعد فترةٍ من الركود الاقتصادي العالمي، قد يكون الوقت قد حان حقاً لأن يُحلّق الاقتصاد العالمي مجدداً — لا مجازاً هذه المرة، بل فعلياً — نحو آفاقٍ جديدة من النمو والابتكار.
[1] https://market.us/report/advanced-aerial-mobility-market/
[2] https://www.rolandberger.com/en/Insights/Global-Topics/Urban-Air-Mobility/
[3] https://www.coherentmarketinsights.com/industry-reports/advanced-aerial-mobility-market
[4] https://www.intertraffic.com/news/urban-mobility/urban-aerial-mobility
[5] https://www.jobyaviation.com/news/abdul-latif-jameel-and-joby-agree-to-explore-opportunities/
[6] https://www.jobyaviation.com/news/joby-cements-global-lead-in-air-taxi-industry/
[7] https://evtolinsights.com/air-unveils-new-production-facility-to-accelerate-evtol-deliveries-in-response-to-growing-demand/
[8] https://www.compositesworld.com/news/ehang-and-partners-to-build-evtol-manufacturing-base-in-china
[9] https://www.wipo.int/web-publications/wipo-technology-trends-technical-annex-the-future-of-transportation-in-the-air/en/emerging-technology-in-detail-urban-air-mobility.html
[10] https://www.wipo.int/web-publications/wipo-technology-trends-technical-annex-the-future-of-transportation-in-the-air/en/emerging-technology-in-detail-urban-air-mobility.html
[11] https://www.privatecharterx.blog/urban-air-mobility-market-2025-analysis/
[12] https://www.flyingmag.com/the-middle-east-cradle-of-urban-air-mobility/
[13] https://www.zawya.com/en/press-release/events-and-conferences/adio-to-host-driftx-2025-as-the-global-platform-for-smart-and-autonomous-mobility-e4mn895d
[14] https://dataintelo.com/report/advanced-aerial-mobility-market
[15] https://dataintelo.com/report/advanced-aerial-mobility-market
[16] https://civitas.eu/urban-air-mobility
[17] https://dataintelo.com/report/advanced-aerial-mobility-market
[18] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/future-air-mobility-blog/bridging-the-gap-how-future-air-mobility-can-adapt-to-decreased-funding
[19] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/future-air-mobility-blog/bridging-the-gap-how-future-air-mobility-can-adapt-to-decreased-funding
[20] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/future-air-mobility-blog/consumer-views-of-drone-delivery-how-soon-can-you-get-here
[21] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/future-air-mobility-blog/consumer-views-of-drone-delivery-how-soon-can-you-get-here
[22] https://www.mckinsey.com/industries/aerospace-and-defense/our-insights/future-air-mobility-blog/consumer-views-of-drone-delivery-how-soon-can-you-get-here
[23] https://www.privatecharterx.blog/urban-air-mobility-market-2025-analysis/
[24] https://www.privatecharterx.blog/urban-air-mobility-market-2025-analysis/


