إلى أي مدى يمكن للهيدروجين أن يُسهم في تشكيل مستقبل التنقل الأخضر؟
كثيراً ما تدفعنا التحديات المناخية العالمية الملحّة إلى التساؤل عما إذا كان الهيدروجين قادراً على إثبات جدواه كحل حقيقي ومستدام للتنقل؟ لا سيما وأنه عنصر وفير ونظيف ومتعدد الاستخدامات.
إن مجرد مطالعة عناوين الصحف العالمية، قد يدفع المرء إلى الاعتقاد بأن المركبات الكهربائية المسيّرة بالبطاريات (BEV) وحدها هي التي تقود مستقبل التنقل في عالمنا. لكننا إذا ما تعمقنا أكثر في البحث، فسنكتشف سريعاً أن مبيعات السيارات الكهربائية المعتمدة على خلايا الوقود الهيدروجينية (FCEVs) آخذة في الارتفاع أيضاً. وتكشف وكالة الطاقة الدولية (IEA) في تقريرها العالمي لتوقعات السيارات الكهربائية لعام 2023 أن العدد الإجمالي للمركبات الكهربائية
لا شك أننا سنجني الكثير من الفوائد إذا ما قررنا تعظيم الاستفادة من هذه التكنولوجيا الواعدة والتوسع في استضافة أعداد متزايدة من هذه المركبات على طرقاتنا. إذاً، فما هي المركبات الكهربائية الهيدروجينية وكيف تقلل من الأضرار التي تلحق بالبيئة؟
محركات الهيدروجين تنطلق بأقصى سرعة
تولد المحركات الهيدروجينية الكهرباء من خلية وقود تعمل بالهيدروجين، وهي عبارة عن مجموعة من الأقطاب الكهربائية الغشائية الفردية التي تستخدم الهيدروجين والأكسجين معاً لإنتاج الكهرباء.
تعتمد قوة المركبة على حجم المحرك الذي يستمد الطاقة من خلية الوقود وحزمة بطارية الجر المدمجة بها. فيما تقوم بطارية الجر عالية الجهد بتخزين الطاقة المتولدة من قوة الكبح، لتوفر طاقة إضافية للمحرك أثناء التحركات كثيفة الاستهلاك للطاقة كما هو الحال في لحظات التسارع.
وتتحدد كمية الطاقة المخزنة في محرك السيارة – وبالتالي المسافة التي يمكن للسيارة قطعها – اعتماداً على حجم خزان الوقود وليس سعة البطارية، على عكس السيارات الكهربائية التي تعمل بالبطارية.
لكن، ما مدى نظافة وقود الهيدروجين؟ الإجابة تكمن في السمات اللونية
عادةً ما يُطلق على الهيدروجين التقليدي اسم “الهيدروجين الرمادي”، الذي يجري اشتقاقه من الميثان أو الفحم عن طريق التغويز أو إعادة تشكيل الميثان بالبخار (SMR)، وبالتالي فهو يحمل بصمة كربونية. ويأتي “الهيدروجين الأزرق” من مصدر مماثل ولكن عبر تكنولوجيا احتجاز الكربون، بكفاءة تتراوح بين 85% و95%. فيما يتم إنتاج “الهيدروجين الأخضر” من خلال عملية تُعرف باسم التحليل الكهربائي الذي يعتمد بالأساس على الكهرباء المتجددة – ما يجعله بديلاً مستداماً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. [2]
ورُغم أن الغاز الطبيعي يمثل المصدر الرئيسي لإنتاج الهيدروجين في الوقت الحالي، إلا أن العالم يشهد استثمارات متزايدة في الهيدروجين الأخضر. وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة انخفاض تكلفة الهيدروجين الأخضر بنسبة 30% بحلول عام 2030، مدفوعاً بالتوسع في إنتاج الهيدروجين والانخفاض النسبي في تكلفة انتاجه. [3]
الهيدروجين يكتسب زخماً عالمياً
تُعد كوريا الجنوبية من أكثر الدول تأييداً للتنقل الهيدروجيني، وهو ما يتجلى في حقيقة أن هذه الدولة الآسيوية تضم وحدها أكثر من نصف عدد مركبات الركاب الهيدروجينية في العالم، حتى أنها استحوذت على ثلثي الوحدات الجديدة التي تم إطلاقها في عام 2022 والبالغ عددها 15,000 مركبة.
وباعتبار الهيدروجين محفزاً رئيسياً للنمو الاقتصادي وفرص العمل في البلاد، فقد عمل صنّاع السياسات في كوريا الجنوبية على تأمين إمدادات الهيدروجين من الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا لتحويل هذه الرؤية إلى واقع.
كما تهدف كوريا الجنوبية إلى أن تصبح “الدولة رقم 1 في قطاع الوقود الهيدروجيني” بحلول عام 2030، اعتماداً على استراتيجية ثلاثية المحاور تشمل مركبات الهيدروجين ومحطات الطاقة وسفن الشحن. [4]
وعلى الجانب الآخر، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تعزيز مكانتها لتصبح ثاني سوق في العالم في مجال الوقود الهيدروجيني، لا سيما بعدما ارتفعت أعداد المركبات الهيدروجينية بأكثر من الخُمس في عام 2022، ليصل إجمالي عدد السيارات والحافلات المسيّرة بخلايا الوقود الهيدروجيني في البلاد إلى 15,000 سيارة وحافلة. ويبدو أن الصين، التي تحتل المركز الثالث، تلحق بهذا الركب أسرع مما هو متوقع، خاصة بعدما نجحت في توسيع أسطولها من المركبات الهيدروجينية بنسبة قياسية بلغت 60% العام الماضي.
لكن الصورة مختلفة تماماً عندما يتعلق الأمر بالمركبات الثقيلة. فالصين هي موطن 95% من الشاحنات الهيدروجينية في العالم وحوالي 85% من جملة الحافلات المسيّرة بخلايا الوقود الهيدروجيني، بل وتهدف إلى تحقيق رقم قياسي بإنتاج مليون شاحنة وحافلة هيدروجينية بحلول منتصف العقد. [5]
ولعل العوامل الاقتصادية الكامنة وراء التحوّل إلى الهيدروجين هي أكثر ما يدفع الزخم في هذه الصناعة، ذلك أنه من المتوقع أن تصل قيمة سوق السيارات الهيدروجينية العالمية إلى 63 مليار دولار أمريكي بحلول أوائل ثلاثينيات القرن الحالي [6]. وسيتعزز دور الهيدروجين في منظومة نقل خالية من الكربون مع استمرار تطور التكنولوجيا الأساسية، ومع انضمام المزيد من الشركات الكبرى إلى هذا القطاع. وفي ظل الجهود الحثيثة لتحقيق هدف الصفر الصافي، تتوقع وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن يزداد الطلب على الهيدروجين بنحو ستة أضعاف بحلول عام 2050، من 94 إلى 530 مليون طن [7].
التكنولوجيا الجديدة تغذي الثقة المتزايدة في الهيدروجين
في الواقع، كان التوسع في انتاج المركبات الهيدروجينية مدفوعاً بالشعبية المتزايدة لهذا الوقود الحيوي في السنوات الأخيرة، وهذه الشعبية ذاتها هي التي رفعت سقف التطور التكنولوجي وجعلت المركبات الكهربائية الهيدروجينية الجديدة خياراً قابلاً للتطبيق على نطاق واسع. ووسط المؤشرات القوية الدالة على تراجع معنويات السوق تجاه المركبات الكهربائية، فهل يمكن أن تندفع المركبات الكهربائية الهيدروجينية إلى صدارة المشهد؟
تُعد تويوتا، شريك عبد اللطيف جميل منذ ما يقرب من 70 عاماً، شركة رائدة عالمياً في مجال التنقل الهيدروجيني.
جاء عام 2023 حاملاً معه سيارة تويوتا كراون سيدان الكهربائية الهيدروجينية الجديدة، التي تتميز بمزيج ديناميكي يجمع بين التصميم الانسيابي والمقصورة المرتفعة. تقف سيارة كراون جنباً إلى جنب مع سيارة تويوتا ميراي، المركبة الرائدة عالمياً في مجال السيارات الكهربائية رباعية الدفع. انطلقت ميراي لأول مرة في عام 2014، وبحلول نهاية عام 2022، حققت السيارة مبيعات تجاوزت 20,000 نسخة.
وفي الوقت نفسه، تستعد «رينو» لإظهار الإمكانات الحقيقية للهيدروجين من خلال سيارتها الجديدة كلياً «سينيك إي-تك» (Scenic E-Tech)، وهي مركبة “كروس أوفر” رباعية الدفع تتميز بانبعاثات أقل بنسبة 75% من السيارات المعتمدة على البطاريات الكهربائية. تحمل سيارة «سينيك إي-تك»، التي تقرر بدء انتاجها في عام 2024، خلية وقود هيدروجينية تعمل بقدرة 15 كيلوواط وتساعد في توسيع نطاق القيادة ليصل إلى 800 كيلومتر، أي أبعد بكثير مما يمكن لأي سيارة كهربائية في السوق الكبيرة أن تقطعه.
كما قررت شركة «بي ام دبليو» أيضاً خوض التجربة من خلال سيارتها الهيدروجينية «آي اكس 5» (iX5) التجريبية التي تعمل بخلايا وقود تويوتا. وقد انطلق أول أسطول من مركبات «آي اكس 5» فعلياً على الطريق في وقت سابق من هذا العام لاستكمال سلسلة من تجارب القيادة.
وقد بدأت صناعة النقل هي الأخرى في استكشاف إمكانات الهيدروجين، خاصة وأن المركبات الهيدروجينية تتميز بسهولة الصيانة وسرعة التزود بالوقود والقدرة على قطع مسافات طويلة بشكل استثنائي، ما يجعها مناسبة جداً لعمليات النقل الثقيل والرحلات الطويلة.
تُعدّ المركبات الهيدروجينية اقتصادية بشكل خاص بالنسبة لحمولات البضائع التي تزيد عن 24,000 رطل والمسافات التي تزيد عن 180 ميلاً. والواقع أنها الخيار الوحيد الخالي من الانبعاثات لرحلات الشحن التي تزيد عن 600 ميل. ويمكن لسيارة هيونداي «إكس سينت» أن تقطع أكثر من 800 كم قبل أن تحتاج إلى إعادة التزود بالوقود – أي ما يعادل ذات المسافة التي يمكن لسيارة تويوتا ميراي قطعها. وقد حققت سيارة «إكس سينت»، التي تستغرق أقل من ثماني دقائق للتزود بالوقود وهي فارغة تماماً، نجاحاً باهراً في كوريا الجنوبية ونيوزيلندا والعديد من الأسواق الأوروبية بما فيها سويسرا، وها هي تستعد للإنطلاق على طرقات الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي قطاع مركبات الشحن، تعاونت «رينو» مع شركة تصنيع خلايا الوقود «بلاج باور» (Plug Power) لإنتاج مركبة «هيفيا» (Hyvia)، وهي شاحنة هيدروجينية يبلغ مداها 500 كم. كما يضم هذا الطراز أيضاً نسخة مصممة كحافلة نقل في المدن، مما يدل على جدارة الهيدروجين كخيار يمكن الاعتماد عليه للنقل العام.
إدخال الهيدروجين إلى وسائل النقل العام
يبدو أن قطاع النقل العام بدأ هو الآخر يتنبه إلى مزايا الهيدروجين، فحتى عام 2022 لم تكن مبيعات الحافلات الكهربائية المسيّرة بالهيدروجين تتجاوز 4,000 حافلة على مستوى العالم. لكن التوقعات تنبئ بأن يتجاوز هذا الرقم 650,000 حافلة بحلول عام 2037، معظمها في الصين وبقية منطقة آسيا والمحيط الهاد [8] . وبينما تستهدف كوريا الجنوبية استقبال 2,000 حافلة هيدروجينية جديدة على طرقاتها بحلول عام 2026، فقد أعلن الاتحاد الأوروبي عن اعتماد الهيدروجين أو البطاريات الكهربائية في جميع الحافلات العامة الجديدة بحلول نهاية العقد. ويأتي هذا القرار في إطار سياسة الاتحاد الشاملة لخفض الانبعاثات بنسبة 90% من جميع الشاحنات والحافلات الجديدة بحلول عام 2040.
وتضطلع شركة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة (FRV)، وهي جزء من شركة عبد اللطيف جميل للطاقة، بدور فاعل في تسليط الضوء على وسائل النقل العام المسيّرة بالوقود الهيدروجيني.
ففي أليكانتي، رابع أكثر المقاطعات الإسبانية من حيث عدد السكان، تتعاون شركة «فوتواتيو-اكس» (FRV-X)، ذراع الابتكار التابعة لشركة فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة، مع شركة فيكتاليا (Vectalia) الإسبانية لتطوير أول مشروع للنقل بالحافلات المسيّرة بالهيدروجين الأخضر [9]. يتضمن المشروع محطة للتحلل المائي تعمل بالطاقة الشمسية ومحطة للهيدروجين لتزويد ما يصل إلى 80 حافلة بالوقود بمدى 400 كيلومتر، ما يُجنب البلاد أكثر من 75 طناً من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في المرحلة الأولى وحدها.
وبالمثل، تشهد سيارات الأجرة المسيّرة بخلايا الوقود الهيدروجينية انتشاراً ملحوظاً في الأسواق الأوروبية قاطبة، مع تصدر تويوتا هذا المشهد المتنامي.
ففي باريس، تساعد تويوتا في زيادة وحدات أسطول سيارات الأجرة المسيّرة بخلايا الوقود الهيدروجينية في المدينة من أكثر من 100 سيارة إلى ما لا يقل عن 10,000 سيارة بحلول عام 2024. وفي ألمانيا، تزود تويوتا شركة أوبر العملاقة لخدمات النقل التشاركي بحوالي 200 مركبة كهربائية هيدروجينية في إطار تجربة مدتها عامان. أما في إسبانيا، فتتعاون شركة فوتواتيو مع رابطة سائقي سيارات الأجرة في مدريد للمساعدة في استبدال ما لا يقل عن 1,000 سيارة أجرة تقليدية بمركبات تعمل بالهيدروجين بحلول عام [10]2026. ويستهدف هذا الاستثمار البالغة قيمته 100 مليون يورو تطبيق نموذج أعمال “التاكسي كخدمة” (TaaS) في قطاع سيارات الأجرة، مما يسمح للسائقين باستخدام المركبات الهيدروجينية بتكلفة تنافسية وبذات نطاق السير ووقت التزود بالوقود كما هو الحال في السيارات التقليدية.
إذاً، ما هي الأسباب الكامنة وراء تصاعد الاهتمام بالهيدروجين كحل مستدام للتنقل؟
ستة أسباب وراء ازدهار التنقل بالهيدروجين
ثمة ستة أسباب رئيسية:
- البيئة: لا تصدر المركبات الهيدروجينية أية عوادم سامة باستثناء بخار الماء، وهو أمر مهم لأن 21% من الانبعاثات العالمية تأتي من وسائل النقل [11]. كما يُعد الهيدروجين وقوداً أكثر كفاءة أيضاً، حيث تقطع السيارات الكهربائية الهيدروجينية مسافة 60 ميلاً لكل كيلوغرام، مقارنة بـ 25 ميلاً لكل جالون من البنزين في المركبات التي تعمل بالنزين. [12]
- أكثر اخضراراَ من اللون الأخضر: يمكن الحصول على الهيدروجين من مختلف مصادر الطاقة النظيفة، بما في ذلك طاقة الرياح والطاقة الشمسية. ومن الممكن أيضاً تخزين فائض الكهرباء خارج أوقات الذروة ــ ما يجعله مصدراً حيوياً للطاقة المتجددة الفائضة أثناء فترات كمون الطلب.
- العملية والراحة: على عكس السيارات الكهربائية المسيّرة بالبطاريات، من غير المرجح أن يواجه السائقون أية مخاوف من مدى القيادة قبل القيام برحلة طويلة، إذ يمكن للمركبات الهيدروجينية أن تقطع عدة مئات من الأميال بخزان واحد، لا تستغرق عملية التزود بالوقود وقتاً أطول من تعبئة خزان السيارة التقليدية.
- تجنب المخاطر المتعلقة بالطاقة: من المتوقع أن يملأ الهيدروجين الفراغ الذي خلفه تقلب أسعار الغاز الطبيعي، في ظل عدم اليقين السياسي الذي تشهده مصادر الغاز التقليدية.
- الابتكار: يعمل الباحثون على تحسين كفاءة خلايا الوقود الهيدروجيني ومتانتها وفعاليتها وتخفيض تكلفتها. وتستهدف وزارة الطاقة الأمريكية تحقيق كفاءة في استهلاك الوقود ليصل إلى 100 ميل لكل 1 كجم من الهيدروجين. [13]
- الدعم التشريعي: ثمة زخم متزايد في القطاع العام لدعم تكنولوجيا الهيدروجين، خاصة بعد أن بدأت الحكومات في مختلف أنحاء العالم في تقدير إمكانات الهيدروجين في مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري. ففي الولايات المتحدة، أقر قانون الحد من التضخم لسنة 2022 إعفاءً ضريبياً على الإنتاج لمدة 10 سنوات للمنشآت التي تنتج الهيدروجين النظيف، ووسع نطاق الإعفاءات الضريبية لتشمل المركبات الهيدروجينية. وفي الصين، يُعد إنتاج الهيدروجين من مصادر متجددة، وبناء منظومة شاملة لصناعة الهيدروجين، من أهم ركائز الخطة الخمسية الرابعة للبلاد (2021-2025). أما المملكة المتحدة، التي لديها بالفعل حافلات تعمل بالهيدروجين في لندن وخارجها، فلديها استراتيجية رسمية تستهدف إنتاج الهيدروجين منخفض الكربون بطاقة انتاجية تبلغ 10 جيجاواط بحلول عام 2030. وقد التزم الاتحاد الأوروبي بإنشاء محطات للتزود بالوقود الهيدروجيني في جميع المدن الكبرى وعلى مسافة 200 كيلومتر على طول الطرق الأساسي. [14] ولدى اليابان خارطة طريق استراتيجية تستهدف إنتاج 800 ألف مركبة، و 1,200 حافلة، و10 آلاف شاحنة تعمل جميعها بخلايا الوقود الهيدروجيني بحلول نهاية هذا العقد [15].
العالم يتحد لبناء مستقبل قائم على الوقود الهيدروجيني
ومع كل هذا التقدم، سيتطلب بناء مستقبل أنظف وأكثر اخضراراً يعتمد على الهيدروجين جهداً تعاونياً على كافة المستويات والأصعدة في جميع أنحاء العالم.
يُعد مجلس الهيدروجين أحد هذه المبادرات، وهو هيئة دولية تضم مجموعة من شركات السيارات وشركات الطاقة والمستثمرين الذين يتشاركون رؤية واحدة إزاء الاقتصاد القائم على الهيدروجين، والذي تشكل المركبات الهيدروجينية جزءاً أساسياً منه. ويعتقد أعضاء المجلس أنه “لا يمكن حل أزمة المناخ من دون هيدروجين نظيف، ولا يوجد هيدروجين نظيف من دون عمل”. ومن هذا المنطلق، يسعى المجلس إلى إنشاء شبكة من خطوط الأنابيب وقنوات الشحن لمسافات طويلة تمتد على مستوى العالم بحلول عام 2050، وذلك لتداول ونقل 60% من إمدادات الهيدروجين العالمية. [16]
وانطلاقاً من ذات الطموح، دخلت شركتا جنرال موتورز وهوندا في تعاون هذا العام لتطوير “الجيل التالي” من خلايا الوقود الهيدروجينية للسيارات والشاحنات، وذلك عبر مشروع مشترك يستهدف بيع 60,000 خلية سنوياً بحلول عام 2030. وتستند هذه الشراكة إلى تعاونهما السابق في مجال تكنولوجيا بطاريات الليثيوم لسيارات الدفع الرباعي الكهربائية.
وسعياً منهما للبقاء في مركز الصدارة، قامت شركتا تويوتا وبي إم دبليو، اللتان طورتا سابقاً سيارة «اكس آي 5» الهيدروجينية استناداً إلى سيارة الدفع الرباعي «اكس 5» من بي ام دبليو، بتشكيل تحالف مماثل لإنتاج سيارات هيدروجينية جديدة، ومن المقرر أن يخرج النموذج الأول إلى النور في عام 2025.
وهذه الجهود مجتمعة تنبئ بزيادة مؤكدة وهائلة في عدد المركبات الهيدروجينية التي ستجوب طرقاتنا في العقود القادمة. لكن كل هذه الجهود قد تذهب سدىً إذا لم تُبذل جهود مقابلة لتطوير بنية تحتية داعمة وكافية.
كيف يُحوّل الهيدروجين التحديات إلى فرص؟
تُعد البنية التحتية – أو بالأحرى غيابها- إحدى العقبات الرئيسية التي تحول دون اعتماد الهيدروجين على نطاق واسع، ذلك أنه لا يوجد حالياً سوى ثلاث محطات عامة لتزويد السيارات بالهيدروجين في المملكة المتحدة [17]وحوالي 170 محطة فقط في جميع أنحاء أوروبا يمكنها توفير الهيدروجين عند مستوى الضغط الموصى به للسيارات. وتبدو الصورة أفضل قليلاً في الولايات المتحدة، التي يوجد بها 59 محطة لتزويد السيارات الهيدروجينية بالوقود، وكلها تقريباً في كاليفورنيا. [18] وتمتلك دولة الإمارات العربية المتحدة حالياً محطة واحدة في مدينة مصدر [19].
وبالنظر إلى الجانب الإيجابي، تبدو هذه الأرقام مرشحة للزيادة بقوة مع ازدياد شعبية السيارات الهيدروجينية، فضلاً عن رخص تكلفة إنشاء محطات التزود بالوقود الهيدروجيني مقارنة بمثيلاتها الكهربائية، كونها لا تحتاج إلى أية تحديثات مرفقية. ومن المؤكد أن جدواها التجارية تبدو أكثر جاذبية من محطات شحن المركبات الكهربائية التي تعمل بخلايا الوقود، إذ تشير البيانات إلى أن محطة متوسطة الحجم للتزود بالوقود الهيدروجيني (سعة 500 كجم/اليوم) تحقق نقطة التعادل عند استخدام 55% فقط. [20]
ومع ذلك، يمكن أن يؤدي تزايد عدد المركبات الكهربائية الهيدروجينية على طرقاتنا إلى بعض المشكلات المماثلة لما تسببه المركبات الكهربائية المعتمدة على البطاريات. مثلاً، إذا أصبحت خلايا التحليل الكهربائي بغشاء تبادل البروتون (PEM) هي التكنولوجيا المفضلة لتوليد الهيدروجين الأخضر[21]، كما يتوقع الكثيرون، فسوف نواجه بسرعة نقصاً في المعادن الأرضية النادرة التي تعتمد عليها.
وعلى وجه التحديد، تعتمد الأنودات داخل خلايا التحليل الكهربائي بغشاء تبادل البروتون على الإيريديوم، الذي لا تتجاوز نسبته في القشرة الأرضية أكثر من 0.00000003% فقط. كما أن الإيريديوم لا يظهر إلا كمنتج ثانوي من عمليات التعدين الأخرى، وبالتالي لا يمكن زيادة إنتاجه بكميات اقتصادية. وبحلول عام 2030، يمكن أن يفوق الطلب على الإيريديوم الكميات المتاحة منه بعدة مرات .[22]
وقد توفر التقنيات الناشئة حلاً جزئياً لهذه المشكلة. فالطريقة الكهروكيميائية المنشطة حرارياً (E-TAC) لإنتاج الهيدروجين تستخدم النيكل بدلاً من أنود الإيريديوم. كما أنها لا تحتاج إلى غشاء لفصل الهيدروجين عن الأكسجين، مما قد يخفض التكاليف إلى دولار أمريكي واحد لكل كيلوغرام.
ومع ذلك، قد يواجه النيكل في نهاية المطاف أزمة في حجم المعروض هو الآخر، وذلك بالنظر إلى ارتفاع حجم الطلب عليه من جانب صانعي بطاريات المركبات الكهربائية. وثمة أيضاً حل آخر يلوح في الأفق، وهو خلايا التحليل الكهربائي للأكسيد الصلب (SOECs)، والتي تتطلب كميات مادية منخفضة نسبياً تتراوح بين 150-200 كجم من النيكل لكل ميجاواط في الوقت الحاضر.
لكن خلايا التحليل الكهربائي للأكسيد الصلب لا تخلو من العيوب هي الأخرى، حيث تتطلب مصدر طاقة ثابتاً لتشغيلها، ولا تزال في مرحلة التجارب الأولية.
وحتى إذا ما نجحت خلايا التحليل الكهربائي للأكسيد الصلب في الهيمنة على إنتاج الهيدروجين الأخضر، فستبقى أمامنا عقبة التغلب على مشكلة ندرة الإيريديوم؟ صحيح أن الجهود تجري على قدم وساق حول العالم، لكن فريقاً من الباحثين في كوريا يجذب اهتماماً خاصاً بخطته الرامية لخفض نسبة الإيريديوم في خلايا التحليل الكهربائي للأكسيد الصلب بشكل كبير، دون التأثير على المتانة. وبوجه خاص، يعمل الفريق على استبدال الإيريديوم بأقطاب نيتريد الحديد، التي تتميز بطبقة رقيقة جداً من الإيريديوم بسمك يبلغ 25 نانومتر فقط من الإيريديوم تكفي للحفاظ على مستوى الأداء والحماية. وتستهلك هذه التقنية 10% فقط من كمية الإيريديوم اللازمة حالياً لتصنيع خلايا التحليل الكهربائي للأكسيد الصلب، مما يعزز الكفاءة الاقتصادية. [23]
والحقيقة أنه كلما ظهرت عقبات في الطريق إلى مستقبل تنقل قائم على الهيدروجين، رأينا المبتكرون والمستثمرون يخرجون علينا بحلول واعدة. وفي القطاع الخاص، تشارك عبد اللطيف جميل بدور فاعل في هذه الرحلة. فبالإضافة إلى المشروعيّن الرائديّن اللذان أطلقتهما فوتواتيو لمشاريع الطاقة المتجددة وفوتواتيو- اكس في مجال التنقل الهيدروجيني في إسبانيا، ترعى عبد اللطيف جميل للسيارات في المملكة العربية السعودية فريق «روكي ريسنج» (ROOKIE Racing) المملوك لرئيس مجلس إدارة شركة تويوتا موتور أكيو تويودا، والذي يشارك في سلسلة سباقات سوبر تايكيو 2023 بسيارات خالية من الكربون.
وفي مايو 2023، أظهرت سيارة تويوتا المسيّرة بالوقود الهيدروجيني السائل إمكانات عالية من حيث السرعة، لتصبح أول سيارة من نوعها تكمل سباق التحمل «ناباك فوجي سوبر تيك» لمدة 24 ساعة.
قطع فريق رووكي للسباقات 358 لفة على حلبة فوجي لسباق أوياما، أي ما يعادل أكثر من 1600 كيلومتر، وهو ما أظهر للصناعة والمشجعين على حد سواء أن الوعي البيئي وشغف السباقات يمكن أن يسيرا معاً في مسار واحد.
هل الهيدروجين مناسب للمستقبل؟
إن خفض تكلفة التنقل بالهيدروجين سيؤدي في نهاية المطاف إلى جعل هذه التكنولوجيا متاحة للجميع. لا يمثل الهيدروجين حالياً سوى حصة صغيرة من سوق التنقل، إذ لا يتجاوز إجمالي عدد المركبات الكهربائية الهيدروجينية على الطرقات أكثر من 72,000 مركبة مقارنة بـ 14 مليون مركبة كهربائية تعمل بالبطاريات تباع سنوياً. [24]
ومع ذلك، يرى الخبراء عدداً من الاتجاهات التي من المقرر أن تغير حظوظ السيارات الهيدروجينية على مدى العقد القادم:
- مزيد من الدعم الحكومي الفعّال
- بنية تحتية متطورة للتزود بالوقود
- المزيد من الإنجازات التكنولوجية
- سلاسل توريد أكثر تنوعاً
ومن شأن هذه الجهود مجتمعة أن تزيد من سرعة التحوّل نحو وقود أنظف للتنقل، فبحلول عام 2030، ستنخفض التكلفة الإجمالية المقدرة لاقتناء شاحنة تعمل بخلايا الوقود وتقطع مسافة 500 كم يومياً في أوروبا بنحو 1.02 يورو لكل كيلومتر – مما يحقق نقطة التعادل مع الشاحنات الكهربائية المسيّرة بالبطاريات، والأهم من ذلك، ستصبح أرخص بنحو 1.13 يورو من تكلفة شاحنة مماثلة تعمل بالديزل .[25]
ومع فقدان السيارات المسيّرة بالوقود الأحفوري بريقها في أعين الجمهور ودخولها تدريجياً في غياهب التاريخ، يمكن للمركبات الهيدروجينية الاستحواذ على حصة كبيرة من سوق التنقل. وإلى أن يحين ذلك، ما علينا سوى الاستعداد للاستمتاع برحلات خالية من الانبعاثات.
[1] https://www.iea.org/reports/global-ev-outlook-2023
[2] https://www.weforum.org/agenda/2021/07/clean-energy-green-hydrogen/
[3] https://www.iea.org/reports/the-future-of-hydrogen
[4] https://www.hydrogeninsight.com/policy/south-korea-to-boost-hydrogen-vehicles-power-plants-and-cargo-ships-as-it-aims-to-become-global-leader-in-h2/2-1-1351988
[5] https://www.euronews.com/next/2022/10/08/at-a-fork-in-the-road-do-hydrogen-cars-offer-a-better-future-than-electric
[6] https://www.polarismarketresearch.com/industry-analysis/hydrogen-fuel-cell-vehicle-market
[7] https://iea.blob.core.windows.net/assets/deebef5d-0c34-4539-9d0c-10b13d840027/NetZeroby2050-ARoadmapfortheGlobalEnergySector_CORR.pdf
[8] https://www.prnewswire.com/news-releases/over-650-thousand-hydrogen-fuel-cell-buses-to-be-sold-by-2037-says-information-trends-301760555.html
[9] https://frv.com/en/frv-y-vectalia-se-alian-para-un-transporte-urbano-sostenible-impulsado-por-hidrogeno-verde/
[10] https://frv.com/en/frv-contribuye-a-la-descarbonizacion-de-la-movilidad-publica-a-traves-del-hidrogeno-verde/
[11] https://www.iea.org/reports/net-zero-by-2050
[12] https://www.energy.gov/eere/vehicles/articles/hydrogens-role-transportation
[13] https://www.energy.gov/eere/vehicles/articles/hydrogens-role-transportation
[14] https://www.hydrogeninsight.com/policy/eu-nations-agree-to-install-hydrogen-fuelling-stations-in-all-major-cities-and-every-200km-along-core-routes/2-1-1426859
[15] https://www.mckinsey.com/~/media/mckinsey/email/rethink/2023/05/2023-05-10d.html
[16] https://www.hydrogeninsight.com/analysis/more-than-60-of-all-clean-hydrogen-will-be-transported-over-long-distances-by-2050-hydrogen-council/2-1-1329563
[17] https://www.ukh2mobility.co.uk/stations/
[18] https://afdc.energy.gov/fuels/hydrogen_stations.html
[19] https://www.adnoc.ae/en/News-and-Media/Press-Releases/2023/ADNOC-to-Launch-First-High-Speed-Hydrogen-Refueling-Station-in-the-Middle-East
[20] https://www.mckinsey.com/capabilities/operations/our-insights/global-infrastructure-initiative/voices/unlocking-hydrogens-power-for-long-haul-freight-transport
[21] www.energymonitor.ai/hydrogen/why-critical-minerals-wont-hamper-the-green-hydrogen-revolution/?cf-view
[22] www.energymonitor.ai/hydrogen/why-critical-minerals-wont-hamper-the-green-hydrogen-revolution/?cf-view
[23] https://interestingengineering.com/innovation/boosting-green-hydrogen-korean-researchers-reduce-rare-metals-in-production
[24] https://alj.com/en/perspective/hydrogen-back-in-the-hotspot/
[25] https://www.mckinsey.com/capabilities/operations/our-insights/global-infrastructure-initiative/voices/unlocking-hydrogens-power-for-long-haul-freight-transport